وقد توافر للغة العربية عاملان، لم يتوافرا لغيرها من اللغات السامية؛
أولهما:أنها نشأت في أقدم موطن للساميين, وثانيهما: أنّ الموقع الجغرافي لهذا الموطن, قد ساعد على بقائها أطول فترة من الزمن, متمتعة باستقلالها وعزلتها, وكان من نتيجة هذين العاملين, أن تميّزت بخصائص كثيرة, تتّضح بجلاء في كل عنصر من عناصرها الثلاثة: الأصوات، والألفاظ، والأساليب على النحو الآتي:
أولاً ـالأصوات:انفردت العربية بثبات أصولها، إذ لم يطرأ عليها أدنى تغيير في نطق حروفها, مثلما طرأ على سائر اللغات في العالم، ولعلّ ذلك راجع إلى سعة مدرج اللغة العربية الفصحى، إذ للأصوات العربية نحو خمسة عشر مخرجاً، تتوزّع بين الجوف والحلق واللسان والشفتين .(الأصوات اللغوية-إبراهيم أنيس- فقه اللغة- د. علي عبد الواحد/ الأصوات العربية د. كمال بشر- وافي 165-166).
ثانياً ـ الألفاظ:فمن أهم ما تمتاز به, أنها أوسع أخواتها الساميات ثروة, في أصول الكلمات والمفردات، فضلاً على أنه قد يجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة ـ اسمها وفعلها وحرفها, ومن المترادفات في الأسماء, والأفعال, والصفات- ما لم يجتمع مثله, بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العالم, فقد جمع للسيف على سبيل المثال نحو ألف اسم. وقد ذكر المستشرق (رينان), أن الأستاذ (دوهامر), قد جمع المفردات العربية المتصلة بالجمل وشؤونه, فبلغت أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربع وأربعين (فقه اللغة:169).
ولايقف الإعجاب من غزارة مادة اللغة العربية, ووفرة مفرداتها, وكثرة ألفاظها على علماء اللغة العرب وحدهم, بل تعدّاه إلى علماء اللغة الغربيين, حيث يقول المستشرق الألماني (بروكلمان):" ومعجم العربية اللغوي لا يجاريه معجم في ثرائه, إنه نهر تقوم على إرفاده منابع اللهجات الخاصة, التي تنطق بها القبائل العربية. (فقه اللغة السامية:31). وقد لاحظ علماء اللغة منذ القدم, أنّ من أبرز ميزات اللغة العربية مناسبة ألفاظها لمعانيها, فكل لفظ فيها, قد تمّ وضعه بإزاء المعنى المنوط بالدلالة عليه في دقة تامة, وعناية فائقة, فهذا جلال الدين السيوطي يقول:" وأما أهل اللغة العربية, فقد كادوا يطبّقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ ومعانيها (المزهر1/47).
كما عقد ابن جني في كتابه (الخصائص) باباً سماه: (في إمساس الألفاظ أشباه المعاني). (الخصائص1/44) ذكر فيه طائفة لا بأس بها من صور التناسب بين الألفاظ ومعانيها, ونقله عنه السيوطي في(المزهر). (المزهر:1/48 وما بعدها), وتتمثل هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني, أنّ اللفظ يحكي صوتاً من أصوات الإنسان, أو الحيوان, أو الطير, أو الفعل الذي يحدثه الإنسان أو غيره.(فقه اللغة:75).(4)
ومما تمتاز به أيضاً مناسبة أبنيتها لمعانيها: فالأبنية والصيغ الصرفية فيها, تجيء دالة على المعنى المنوط بها, مفصحة عن الدلالة المقترنة بها, ممّا يغني القارئ عن اللجوء إلى المعاجم والمراجع اللغوية في فهم كل ما يقرأ أو يسمع, إذ يقول ابن جني:"وكذلك جعلوا تكرير(العين) نحو: فرّح, وبشّر, فجعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى, وخصّوا بذلك (العين) لأنها أقوى من الفاء واللام, إذ هي واسطة لهما, ومكتوفة بهما, فصارا كأنهما سياج لها (الخصائص:2/155). كما تأتي المصادر الرباعية المضعّفة, لتدل على التكرير نحو: الزعزعة, والقلقلة, والصلصلة, والقعقعة, والجرجرة, والقرقرة". وهكذا نرى أن الأبنية والصيغ الصرفية, توحي بالدلالة على المعاني التي وضعت لتدلّ عليها, وإن لم يسبق لنا علم بها, أو اطلاع عليها في معاجم اللغة. و ممّا تفرّدت به دوران المادة حول معنى واحد, أنّك تجد الأصل اللغوي للكلمة يدل على معنى بعينه, ثمّ تجد كل ما يشتق من هذا الأصل من صيغ, تدل على معان متقاربة ومتشابهة. تدور جميعها حول المعنى العام الذي يدلّ عليه الأصل. وقد عني بهذه الظاهرة, وكان له فضل السبق إلى ابتكارها العالم اللغوي, الخليل بن أحمد الفراهيدي, بتأليف معجم (العين), الذي يقوم على نظام تقلّبات المادة اللغوية, إذ كان كلما تعرّض لايضاح معنى لفظه , يذكر معها تقلباتها (دلالة الألفاظ د. إبراهيم أنيس:67).
ثالثاً- الأساليب:تميّزت من غيرها من اللغات, بقدرتها على التصرّف في الأساليب والعبارات, وعلى التنوّع في التراكيب, وذلك بحسب المقام, الذي يتطلّب نوعاً معيناً من الأساليب دون غيره, من تقديم وتأخير, وزيادة وحذف, وإيجاز وإطناب, وكان مرتكزها في هذه الميزة خصائص ثلاث توافرت لها, وتفرّدت بها دون غيرها من اللغات؛ علامات الإعراب, وإيجاز اللفظ مع الدلالة على المعنى, والاكتفاء الذاتي مع الدقة في التعبير.(5)
وهكذا تميّزت اللغة العربية بخصائص أبرزتها, من الناحية الصوتية , والمترادفات, والوضوح, وشدة الارتباط بين الصوت والمعنى في كلماتها, والاشتقاق, والإعراب, والتتغير في الدلالات بتغيير بنية
__________________